منير لكماني / ألمانيا
زمن تتكسر فيه الثوابت كما تتكسر الأمواج على صخور مجهولة، زمن تذوب خلاله المرجعيات التي كانت تمنح الإنسان يقيناً واتجاهاً. قيمٌ عتيقة انهارت، ومشاريع فكرية حديثة خبت نارها، فترك الإنسان وحيداً أمام ذات متعطشة لا تشبع. لحظة عابرة صارت أفقه الوحيد، ولذة آنية غدت غايته القصوى، فيما تلتف حوله أسواق الاستهلاك كدوامة لا تعرف التوقف. وفرة مادية لا نظير لها تحاصر الجسد، لكن الروح تزداد فقراً ووحشة. إنّه مشهد يبعث القلق أكثر مما يمنح السكينة، ويجعل السؤال ماثلاً بإلحاح: أهو عصر تحرر وانفتاح، أم عصر فراغ ينذر بانمحاء المعنى؟
هيمنة الفردانية
الفرد لم يعد مرتبطاً بتقاليد راسخة أو التزامات جماعية، بل صار يتمحور حول ذاته. الحرية الشخصية تحولت إلى شعار مهيمن، لكنها غالباً ما تنفصل عن حس المسؤولية تجاه الآخرين. الهوية لم تعد تُبنى بالانتماء إلى جماعة أو رسالة، وإنما تُقاس بما يملك الإنسان ويستهلكه. هذا التحول أفرز نموذجاً جديداً للوجود الفردي حيث يصبح “المستهلك” هو الصورة الأوضح. الانفتاح على الذات منح شعوراً بالتحرر، لكنه في الوقت ذاته عزز العزلة الداخلية. وهكذا يعيش الإنسان حراً من القيود القديمة، لكنه مقيد بالفراغ الذي يتركه غياب المشروع الجماعي.
انكسار المعايير
المشاريع الكبرى التي كانت تحرك المجتمعات انهارت واحدة تلو الأخرى. لم تعد الشعارات الصاخبة ولا المشاريع المتحمّسة قادرة على أن تُلهم الأجيال أو تمنحها بوصلة واضحة. الحقيقة تحولت إلى رؤى متفرقة، لا مرجعية مطلقة تضبطها أو تهديها. الزمن غدا لحظة عابرة، حاضر يبتلع الماضي والمستقبل، ويجعل الإنسان حبيس الآن الضيق. الانغماس في اللحظة يولّد إحساساً بالفراغ أشد من إحساس الإنجاز. وهكذا تتقلص الحياة إلى آنية متهالكة، وتغدو مجرد سلسلة من لذّات مؤقتة. والنتيجة فراغ يتسع كلما ظن الإنسان أنه اقترب من الامتلاء.
زمن الاستعراض
وسائل الإعلام لم تعد مجرد أدوات إخبارية أو ترفيهية، بل تحولت إلى قوة تصوغ الوعي الجماعي. الموضة والإعلانات صنعت نموذجاً للمعنى يقوم على التغيير الدائم والزوال السريع. الفرد يلهث وراء الجديد باستمرار، لكنه لا يجد ما يملأ الفراغ الداخلي. الثقافة الاستهلاكية تقدم وعوداً بالسعادة، لكنها تترك أثراً من الملل والقلق. الجسد أصبح جزءاً من هذه المنظومة، حيث يُستثمر في المظهر والرياضة والحمية أكثر من أي وقت مضى. هذا كله يعكس سيطرة الاستهلاك على كل جوانب الحياة. ومع ذلك يبقى الإنسان متسائلاً عن جدوى ما يعيشه.
هشاشة الروابط
المشاركة السياسية تراجعت لتتحول الجماهير إلى مشاهدين بدل فاعلين. المواطن فقد ثقته في المشاريع الكبرى للتغيير، ولم يعد يرى جدوى من الانخراط. التضامن الاجتماعي الذي كان يحكم العلاقات تقلص لحساب الفردانية المتنامية. المجتمع أصبح هشاً أمام الأزمات لأن روابطه الداخلية ضعفت. الاهتمام بالذات غلب على الاهتمام بالشأن العام. السياسة لم تعد قوة تعبئة بل صارت مجرد مشهد ضمن مشاهد الإعلام. هكذا يضعف البنيان الاجتماعي وتتآكل معاني الالتزام المشترك.
عصر الانطفاء
الفراغ لا يعني العدم الكامل، بل يعني غياب البوصلة التي تجمع الأفراد على معنى مشترك. الحرية توسعت إلى حدود غير مسبوقة، لكن الوحدة الداخلية تعمقت. الإنسان يعيش وفرة مادية هائلة، لكنه يشعر بفقر روحي لا ينتهي. هذا التناقض يجعل الحياة معلقة بين الامتلاء الخارجي والفراغ الداخلي. لا معايير كبرى توجه المسار، ولا قيم جامعة تمنح الطمأنينة. وهكذا يتشكل عصر جديد، زمن الوفرة المادية والحرمان الوجودي، زمن القلق والبحث عن معنى ضائع.
المشهد المعاصر يكشف عن حرية واسعة واستهلاك متجدد، لكنه يكشف أيضاً عن فراغ عميق في المعنى والالتزام. الإنسان أصبح مركز الوجود، لكن غابت عنه بوصلة ترشده نحو غاية أسمى. وهكذا تبقى الأسئلة مفتوحة: هل يمكن للإنسان أن يجد توازناً بين حريته الفردية ومسؤوليته الجماعية؟ هل يستطيع أن يملأ فراغه الداخلي بمعنى يتجاوز الاستهلاك واللحظة العابرة؟ وهل يملك وعياً يعيد للوجود عمقه الذي فقده؟